الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: الاستفتاح عقب التكبير مسنون عند جمهور الأئمة، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد. كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة: مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين. قال: قلت: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: (أقول اللهم باعد بيني...) وذكر الدعاء. فبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين التكبير والقراءة سكوتًا يدعو فيه. وقد جاء في صفته أنواع، وغالبها في قيام الليل، فمن استفتح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك) فقد أحسن، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أن عمر كان يجهر في الصلاة المكتوبة بذلك، وقد روي ذلك في السنن مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. /ومن استفتح بقوله: (وجهت وجهي...) إلخ فقد أحسن. فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح به، وروي أن ذلك كان في الفرض. وروي أنه في قيام الليل، ومن جمع بينهما، فاستفتح: بـ (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره. و(وجهت وجهي)، فقد أحسن. وقد روي في ذلك حديث مرفوع. والأول: اختيار أبي حنيفة وأحمد. والثاني: اختيار الشافعي. والثالث: اختيار طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومن أصحاب أحمد. وكل ذلك حسن بمنزلة أنواع التشهدات، وبمنزلة القراءات السبع التي يقرأ الإنسان منها بما اختار. وأما كونه واجبًا، فمذهب الجمهور أنه مستحب، وليس بواجب. وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو المشهور عن أحمد، وفي مذهبه قول آخر يذكره بعضهم رواية عنه أن الاستفتاح واجب. والله أعلم.
/فأجاب: إذا فعل ذلك أحيانًا للتعليم ونحوه، فلا بأس بذلك، كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مدة، وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانًا. وأما المداومة على الجهر بذلك، فبدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائمًا، بل لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر بالاستعاذة. والله أعلم.
وَقَـال شيخ الإسلام ـ رحمه الله : فأما صفة الصلاة ومن شعائرها مسألة البسملة، فإن الناس اضطربوا فيها نفيًا وإثباتًا، في كونها آية من القرآن، وفي قراءتها، وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع جهل وظلم، مع أن الخطب فيها يسير. وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها، فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنها. إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفترقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدًا، لولا ما يدعو /إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة. فأما كونها آية من القرآن، فقالت طائفة كمالك: ليست من القرآن، إلا في سورة النمل. والتزموا أن الصحابة أودعوا المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك، وحكي طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه، وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه. وقالت طائفة منهم الشافعي: ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف، عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة، مع أدلة أخري. وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا: كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن، للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، بل تكون آية مفردة أنزلت في أول كل سورة، كما كتبها الصحابة سطرًا مفصولًا، كما قال ابن عباس: كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل: /وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة. طائفة لا تقرؤها لا سرًا ولا جهرًا. كمالك والأوزاعي. وطائفة تقرؤها جهرًا، كأصحاب ابن جريج والشافعي. والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث، مع فقهاء أهل الرأي يقرؤونها سرًا، كما نقل عن جماهير الصحابة، مع أن أحمد يستعمل ما روي عن الصحابة في هذا الباب، فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة، حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها، فقال بعض أصحابه؛ لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها. ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متمًا. وقال: الخلاف شر. وهذا، وإن كان وجهًا حسنًا، فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرؤونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها سنة، وكما جهر عمر/ بالاستفتاح غير مرة، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالآية أحيانًا، في صلاة الظهر والعصر. ولهذا نقل عن أكثر من روي عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة، فكأنهم جهروا لإظاهر أنهم يقرؤونها، كما جهر بعضهم بالاستعاذة ـ أيضًا. والاعتدال في كل شيء، استعمال الآثار على وجهها، فإن كون النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها دائمًا ـ وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك، ولم يفعلوه ـ ممتنع قطعًا. وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل، وكون الجهر بها لا يشرع بحال ـ مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة ـ نسبة للصحابة إلى فعل المكروه، وإقراره، مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض، كما تقدم. وكراهة قراءتها مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الصحابة كتبتها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة، فيه ما فيه، مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان، فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة، فمتابعة الآثار فيها الاعتدال والائتلاف، والتوسط الذي هو أفضل الأمور. ثم مقدار الصلاة يختار فيها فقهاء الحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم/ التي كان يفعلها غالبًا، وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة، التي يخفف فيها القيام والقعود، ويطيل فيها الركوع والسجود، ويسوي بين الركوع والسجود، وبيَّن الاعتدال منهما. كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع كون القراءة في الفجر بما بين الستين إلى المائة، وفي الظهر نحو الثلاثين آية، وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك، مع أنه قد يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف، لما أعلم من وجد أمه به). كما أنه قد يطيلها على ذلك لعارض كما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بطولي الطوليين، وهي الأعراف. ويستحب إطالة الركعة الأولي من كل صلاة على الثانية، ويستحب أن يمد في الأوليين، ويحذف في الأخريين، كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وعامة فقهاء الحديث على هذا. ومن الفقهاء من لا يستحب أن يمد الاعتدال عن الركوع والسجود، ومنهم من يراه ركنا خفيفًا، بناءً على أنه يشرع تابعًا لأجل الفصل، لا أنه مقصود. ومنهم من يسوي بين الركعتين الأوليين، ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث. إلى أقوال أخر قالوها.
/ فأجاب:0 الحمد لله رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر فهو/ صريح لا يحتمل هذا التأويل، فإنه قد رواه مسلم في صحيحه فقال فيه: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، في أول قراءة، ولا في آخرها، وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك، لايجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع. واللفظ الآخر الذي في صحيح مسلم: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يجهر، أو قال: يصلي ببسم الله الرحمن الرحيم، فهذا نفي فيه السماع، ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله، بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ جهرًا، ولا يسمع أنس لوجوه: أحدها: أن أنسًا إنما روى هذا ليبين لهم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع، إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع، فلو لم يكن ما ذكره دليلًا على نفي ذلك لم يكن أنس ليروي شيئًا لا فائدة لهم فيه، ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم. الثاني: أن مثل هذا اللفظ صار دالًا في العرف على عدم ما لم/ يدرك، فإذا قال: ما سمعنا، أو ما رأينا، لما شأنه أن يسمعه ويراه، كان مقصوده بذلك نفي وجوده، وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك. ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه. وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو: أن أنسًا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم من حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إلى أن مات، وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب، ويصحبه حضرًا وسفرًا وكان حين حج النبي صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يسيل عليه لعابها أفيمكن مع هذا القرب الخاص، والصحبة الطويلة ألا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها، مع كونه يجهر بها هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه في العادة. ثم إنه صحب أبا بكر وعمر وعثمان، وتولى لأبي بكر وعمر ولايات، ولا كان يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون، وهو لا يسمع ذلك، فتبين أن هذا تحريف لا تأويل. لو لم يرو إلا هذا اللفظ، فيكف والآخر صريح في نفي الذكر بها؟ وهو يفضل هذه الرواية الأخري. وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله: يفتتحون الصلاة بـ وأيضًا، فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة، هو من العلم الظاهر العام الذي يعرفه الخاص والعام، كما يعلمون أن الركوع قبل السجود وجميع الأئمة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا، ليس في نقل مثل هذا فائدة، ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس، وهم قد سألوه عن ذلك، وليس هذا مما يسأل عنه، وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش، وخلفاء بني أمية، وبني الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة، ولم يشتبه هذا على أحد، ولا شك. فكيف يظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه. وإنما مثل ذلك مثل أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، أو يقـول: فكانوا يجهـرون في العشاءين والفجـر، ويخافتـون في صـلاتي الظهرين، أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين، دون الأخيرتين. ومثل حديث أنس حديث عائشة الذي في الصحيح ـ أيضًا ـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصـلاة بالتكبـير، والقـراءة بالحمـد لله رب العالمين إلى آخـره، وقـد روي: يفتـح القـراءة بـ وأما اللفظ الآخر [لا يذكرون] فهو إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه وذلك موجود في الجهر، فإنه إذا لم يسمع مع القرب، علم أنهم لم يجهروا. وأما كون الإمام لم يقرأها، فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة يمكن فيها القراءة سرًا؛ ولهذا استدل بحديث أنس على عدم القراءة. من لم ير هناك سكوتًا، كمالك وغيره. لكن قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال: (أقول: كذا وكذا) إلى آخره. وفي السنن من حديث عمران وأبي وغيرهما: أنه كان يسكت قبل القراءة. وفيها أنه كان يستعيذ، وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسًا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر، وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر، وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرًا يسمي سكوتًا، كما في حديث أبي هريرة، فيصلح أن يقال: لم يقرأها، ولم يذكرها، أي جهرًا، فإن لفظ السكوت، ولفظ نفي الذكر والقراءة مدلولهما هنا واحد. /ويؤيد هذا حديث عبد الله بن مغفل. الذي في السنن: أنه سمع ابنه يجهر بها فأنكر عليه، وقال: يا بني، إياك والحدث، وذكر أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يجهرون بها، فهذا مطابق لحديث أنس، وحديث عائشة اللذين في الصحيح. وأيضًا، فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة، لم يكن في العادة ولا في الشرع ترك نقل ذلك، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما؛ إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه، كالتواطؤ على الكذب فيه. ويمثل هذا بكذب دعوي الرافضة في النص على علي في الخلافة، وأمثال ذلك. وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ولم يرو أهل السنن المشهورة كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك، وإنما يوجد الجهر بها صريحًا في أحاديث موضوعة، يرويها الثعلبي والماوردي، وأمثالهما في التفسير. أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره، بل يحتجون بمثل حديث الحميرا. /وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء من لم يعز في كتابه حديثًا إلى البخاري إلا حديثًا في البسملة، وذلك الحديث ليس في البخاري، ومن هذا مبلغ علمه في الحديث كيف يكون حالهم في هذا الباب، أو يرويها من جمع هذا الباب كالدارقطني، والخطيب، وغيرهما. فإنهم جمعوا ما روي، وإذا سئلوا عن صحتها قالوا: بموجب علمهم. كما قال الدارقطني لما دخل مصر. وسـئل أن يجمع أحـاديث الجهـر بها فجمعها، فقيـل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف. وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك، فذكر حديثين حديث معاوية لما صلى بالمدينة، وقد رواه الشافعي ـ رضي الله عنه ـ قال: حدثنا عبد المجيد، عن ابن جُرَيْج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بأم القرآن، فقرأ /وقال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني ابن خثيم عن إسماعيل بن عبيد ابن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلي بهم، ولم يقرأ فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح، ولا صريح، فضلا أن يكون فيها أخبار مستفيضة أو متواترة، امتنع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها، كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل. فإن قيل: هذا معارض بترك الجهر بها، فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ثم هو ـ مع ذلك ـ ليس منقولًا بالتواتر، بل قد تنازع فيه العلماء، كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه، ثم لم ينقل نقلًا قاطعًا، بل وقع فيه النزاع. /قيل: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة، ويجب نقله شرعًا، هو الأمور الوجودية، فأما الأمور العدمية، فلا خبر لها، ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده، أو احتيج إلى معرفته، فينقل للحاجة؛ ولهذا قالوا: لو نقل ناقل افتراض صلاة سادسة، أو زيادة على صـوم رمضان، أو حجًا غير حج البيت، أو زيادة في القرآن، أو زيادة في ركعات الصـلاة، أو فرائض الزكـاة، ونحـو ذلك، لقطعنا بكذبه. فإن هذا لو كان، لوجب نقله نقـلًا قـاطعًا عادة وشرعًا، وإن عدم النقل يدل على أنه لم ينقل نقلًا قاطعًا عادة وشرعًا، بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعي في العادة والشرع على نقله، أنه لم يكن. وقد مثل الناس ذلك بما لو نقل ناقل: أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر، ولم يصل الجمعة، أو أن قومًا اقتتلوا في المسجد بالسيوف، فإنه إذا نقل هذا الواحد والاثنان والثلاثة دون بقية الناس، علمنا كذبهم في ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة. وإن كانوا لا ينقلون عدم الاقتتال ولا غيره من الأمور العدمية. يوضح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالاستفتاح والاستعاذة، واستدلت الأمة على عدم جهره بذلك، وإن كان لم ينقل نقلًا عامًا عـدم الجهـر بذلك. فبالطريق الذي يعلم عدم جهره بذلك، يعلم عدم جهره بالبسملة. وبهذا / يحصل الجواب عما يورده بعض المتكلمين على هذا الأصل، وهو كون الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها يمتنع ترك نقلها. فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة. فأما الأذان والإقامة، فقد نقل فعل هذا وهذا، وأما القنوت، فإنه قنت تارة وترك تارة. وأما الجهر، فإن الخبر عنه أمر وجودي، ولم ينقل فيدخل في القاعدة. الوجه الثاني: أن الأمور العدمية لما احتيج إلى نقلها، نقلت. فلما انقرض عصر الخلفاء الراشدين وصار بعض الأئمة يجهر بها كابن الزبير ونحوه، سأل بعض الناس بقايا الصحابة كأنس، فروي لهم أنس ترك الجهر بها. وأما مع وجود الخلفاء، فكانت السنة ظاهرة مشهورة ولم يكن في الخلفاء من يجهر بها، فلم يحتج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى ينقل. الثالث: أن نفي الجهر قد نقل نقلًا صحيحًا صريحًا في حديث أبي هريرة، والجهر بها لم ينقل نقلًا صحيحًا صريحًا، مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحق بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية. وهـذه الوجـوه من تدبرها، وكان عالمًا بالأدلة القطعية، قطع/ بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهـر بها، بل ومن لم يتدرب في معرفة الأدلة القعطية من غيرها يقول ـ أيضًا ـ: إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيح صريح، فكيف يمكن بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها، ولم تنقل الأمـة هـذه السـنة، بل أهملـوها وضيعـوها؟ وهل هـذه إلا بمثابة أن ينقـل ناقـل: أنه كان يجهـر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان فيهم من يجهر بالبسملة؟ ومـع هـذا فنحـن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة، كما كان يجهر بالفاتحة. كذلك نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالبسملة، كما كان يجهر بالفاتحة، ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانًا، أو أنه كان يجهر بها قديمًا ثم ترك ذلك، كما روى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير، ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يجهر بها بمكة، فكان المشركون إذا سمعوها، سبوا الرحمن، فترك الجهر، فما جهر بها حتى مات فهذا محتمل. وأما الجهـر العارض، فمثل ما في الصحيح أنه كان يجهر بالآية أحيانًا، ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ومثل جهر عمر بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالي جدك ولا إله غيرك، ومثل جهر ابن عمر وأبي/ هريرة بالاستعاذة، ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة ليعلموا أنها سنة. ويمكن أن يقال: جهر من جهر بها من الصحابة، كان على هذا الوجه؛ ليعرفوا أن قراءتها سنة، لا لأن الجهر بها سنة. ومـن تدبر عامـة الآثار الثابتـة في هـذا الباب، علم أنها آيـة من كتاب الله، وأنهم قرؤوهـا لبيان ذلك، لا لبيان كونها مـن الفاتحـة، وأن الجهر بها سنة، مثل ما ذكر ابن وهب في جامعـه قال: أخبرني رجـال مـن أهـل العلم عـن ابن عباس، وأبي هريرة، وزيد ابن أسلم، وابن شهاب مثله بغير هـذا الحـديث عـن ابن عمر، أنـه كـان يفتتح القـراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن شهاب: يريد بذلك أنها آية من القرآن، فإن الله أنزلها، قال: وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الزمان، وحديث ابن عمر معروف من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى جهر بـ /ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يروي الجهر بها ليس معه حديث صريح؛ لعلمه بأن تلك أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يتمسك بلفظ محتمل، مثل اعتمادهم على حديث نُعَيْم المْجَمِّر عن أبي هريرة المتقدم. وقد رواه النسائي. فإن العارفين بالحديث يقولون: إنه عمدتهم في هذه المسألة ولا حجة فيه. فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة أظهر دلالة على نفي قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها. فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: وقـد روى عبـد الله بن زيـاد بن سليمان ـ وهو كذاب ـ أنه قال: في أوله فـإذا قـال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال ذكرني عبدي/ولهذا اتفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة، وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر؛ لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم؛ ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين، وترك الجهر بالبسملة، كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك؛ لأن هذا كان من شعار الرافضة. ولهذا ذهب أبو على بن أبي هريرة أحـد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها، قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين، كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور؛ لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع. فحديث أبي هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة، ولا من القراءة المقسومة، وهو على نفي القراءة مطلقًا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر. فإن في حديث نعيم المجمر أنه قرأ: والجهر بها ـ مع كونها ليست من الفاتحة ـ قول لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، وغيرهم من الأئمة المشهورين، ولا أعلم به قائلا. لكن هي من الفاتحة، وإيجاب قراءتها ـ مع المخافتة بها ـ قول طائفة من أهل الحديث، وهو إحدي الروايتين عن أحمد. وإذا كان أبو هريرة إنما قرأها استحبابًا لا وجوبًا ـ وعلي هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بهاـ كان جهره بها أولي أن يثبت دليلًا على أنه ليعرفهم استحباب قراءتها. وأن قراءتها مشروعة، كما جهر عمر بالاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، ونحو ذلك. ويكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة، وإن لم يجهر بها ـ وحينئذ، فلا يكون هذا مخالفًا لحديث أنس الذي في الصحيح، وحديث عائشة الذي في الصحيح، وغير ذلك. هذا، إن كان الحديث دالا على أنه جهر بها، فإن لفظه ليس صريحًا بذلك من وجهين: /أحدهما: أنه قال: قرأ الثاني: أنه لم يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها قبل أم الكتاب، وإنما قال في آخر الصلاة: إني لأشبهكم صـلاة برسـول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث أنه أمن وكبر في الخفض والرفع، وهـذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة، فيكون أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الوجوه التي فيها مـا فعله رسـول الله صلى الله عليه وسلم، وتركـوه هم، ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون صـلاته مثل صـلاته، مـن كل وجـه. ولعل قراءتها مع الجهـر، أمثـل من ترك قراءتها بالكلية عنـد أبي هـريرة، وكان أولئك لا يقرؤونها أصـلا، فيكـون قراءتها ـ مع الجهر ـ أشـبه عنـده بصـلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان غيره ينازع في ذلك. /وأما حـديث المعتمر بن سليمان عـن أبيه، فيعلم أولًا: أن تصحيح الحاكم وحـده وتوثيقه وحـده لا يوثق بـه فيما دون هـذا. فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم. وقـد اتفق أهـل العلم في الصحيح على خـلافه؟! ومن له أدني خبرة في الحديث وأهله، لا يعارض بتـوثيق الحاكم ما قـد ثبت في الصحيح خلافـه. فـإن أهـل العلم متفقون على أن الحاكم فيـه مـن التساهـل والتسامـح في باب التصحيـح. حتى أن تصحيحه دون تصحيح الترمـذي والدارقطني وأمثالهما بلا نزاع، فكيف بتصحيح البخاري ومسلم؟! بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر بن خزيمـة، وأبي حاتم بن حبان البستي، وأمثالهما، بل تصحيح الحافظ أبي عبـد الله محمـد بن عبـد الواحـد المقدسي في مختاره خـير من تصحيح الحاكم، فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب، عند من يعرف الحـديث. وتحسين الترمذي ـ أحيانًا ـ يكون مثل تصحيحه أو أرجح، وكثيرًا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها، فهذا، هذا. والمعروف عن سليمان التيمي وابنه مُعْتَمِر، أنهما كانا يجهران بالبسملة، لكن نقله عـن أنس هو المنكر، كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنـه خـلاف ذلك، حتى أن شعبة سأل قتادة عن هـذا قال: أنت سمعت أنسًا يذكر ذلك؟ قال: نعم. وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر. ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة، وأرفع/ درجات الصحيح عند أهله؛ إذ قتادة أحفظ أهل زمانه، أو من أحفظهم. وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم. وهذا مما يُرَدُّ به قول من زعم أن بعض الناس روي حديث أنس بالمعني الذي فهمه، وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها، فرواه من عنده، فإن هذا القول لا يقـوله إلا مـن هو أبعد الناس علمًا برواة الحديث، وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل، وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة، أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه، ويدع موجب العلم والدليل. ثم يقال: هب أن المعْتَمِر أخذ صلاته عن أبيه، وأبوه عن أنس وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مجمل ومحتمل؛ إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئي من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنـه مـن المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد، لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفـرقة حق الضـبط، إلا بنقل مفصل لا مجمـل. وإلا فمـن المعلوم أن مثـل منصور بن المعْتَمِر، وحَمَّاد بن أبي سليمان، والأعمش، وغـيرهم، أخذوا صلاتهم عـن إبراهيم النّخْعِي وذويـه، وإبراهيم أخـذها عـن عَلْقَمة والأسـود ونحوهما، وهم أخـذوها عـن ابن مسعود، وابن مسعـود عـن النبي صلى الله عليه وسلم. وهـذا الإسناد أجَلُّ رجالًا من /ذلك الإسـناد. وهـؤلاء أخـذ الصـلاة عنهم أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلي، وأمثالهم مـن فقهاء الكوفـة. فهـل يجـوز أن يجعـل نفس صـلاة هـؤلاء هي صـلاة رسـول الله صلى الله عليه وسلم بهـذا الإسناد، حتى في موارد النزاع؟ فـإن جـاز هـذا، كان هؤلاء لا يجهرون، ولا يرفعـون أيديهم، إلا في تكبيرة الافتتاح، ويسفرون بالفجر، وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون. ونظير هذه، احتجاج بعضهم على الجهر بأن أهل مكة من أصحاب ابن جُرَيج، كانوا يجهرون، وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جُرَيج، وهو أخذها عن عطاء، وعطاء عن ابن الزبير، وابن الزبير عن أبي بكر الصديق، وأبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جُرَيج. كسعيد ابن سالـم القَدَّاح، ومسلم بن خالد الزَّنْجي، لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لايثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها. ولئن جاز ذلك، ليكونن مالك أرجح من هؤلاء، فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين، وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة، أجَلُّ قدرًا، وأعلم بالسنة، وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة. وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة، فقالوا: هذا / المحراب الذي كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم الأئمة، وهلم جرا. ونقلهم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل متواتر، كلهم شهدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلاة خلفائه، وكانوا أشد محافظة على السنة، وأشد إنكارًا على من خالفها من غيرهم، فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية، وبني العباس، فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون، وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا، ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة، بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة لا تتعلق بأمر ملكهم، وما يتعلق بذلك من الأهواء، وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض. وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج، لم تكن دون تلك، بل نحن نعلم أنها أقوي منها، فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها، والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر، حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لم يذهب ذاهب ـ قط ـ إلى أن عمل غير أهل المدينة/أو إجماعهم حجة، وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم: هل هو حجة أم لا؟ نزاعًا لا يقصر عن عمل غيرهم، وإجماع غيرهم، إن لم يزد عليه. فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي، وابن جُرَيج، وأمثالهما بعمل أهل المدينة، لو لم يكن المنقول نقلًا صحيحًا صريحًا عن أنس يخالف ذلك، فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت، وإنما صححه مثل الحاكم، وأمثاله. ومثل هذا ـ أيضًا ـ يظهر ضعف حديث معاوية الذي فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة، فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة في أول الفاتحة وأول السورة حتى عاد يعمل ذلك. فإن هذا الحديث ـ وإن كان الدارقطني قال: إسناده ثقات، وقال الخطيب: هو أجود ما يعتمد عليه في هـذه المسألة، كما نقـل ذلك عنـه نصر المقـدسي ـ فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه: أحدها: أنه يروى عن أنس ـ أيضًا ـ الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذي يرد هذا. الثاني: أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خُثَيم/ وقد ضعفه طائفة، وقد اضطربوا في روايته إسنادًا ومتنًا، كما تقدم وذلك يبين أنه غير محفوظ. الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل السماع، بل فيه من الضعفة والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع أو سوء الحفظ. الرابع: أن أنسًا كان مقيمًا بالبصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسًا كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه. الخامس: أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة، والراوي لها أنس وكان بالبصرة، وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها. ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته، وأهل المدينة، لم ينقل أحد منهم ذلك، بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك، والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء. السادس: أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة، لكان هذا ـ أيضًا ـ معروفًا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل هذا أحد عن معاوية. بل الشاميون كلهم ـ خلفاؤهم وعلماؤهم ـ كان مذهبهم ترك الجهر بها؛ بل الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك لا يقرؤها سرًا ولا جهرًا. فهذه الوجوه وأمثالها، إذا تدبرها العالم، /قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغير عن وجهه، وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح، فحصلت الآفة من انقطاع إسناده. وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة، لكان شاذًا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس، وعن أهل المدينة، وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت ألا يكون شاذًا ولا معللا، وهذا شاذ معلل، إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته. والعمدة التي اعتمدها المصنفون في الجهر بها ووجوب قراءتها، إنما هو كتابتها في المصحف بقلم القرآن، وأن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه. والذين نازعوهم، دفعوا هذه الحجة بلا حق، كقولهم: القرآن لا يثبت إلا بقاطع، ولو كان هذا قاطعًا لكفّر مخالفه. وقد سلك أبو بكر بن الطيب البَاقِلاَّني وغيره هذا المسلك، وادعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعي في كونه جعل البسملة من القرآن، معتمدين على هذه الحجة، وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر، ولا تواتر هنا، فيجب القطع بنفي كونها من القرآن. والتحقيق أن هذه الحجة مقابلة بمثلها، فيقال لهم: بل يقطع/ بكونها من القرآن حيث كتبت، كما قطعتم بنفي كونها ليست منه. ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن، فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله، ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله. فإن قال المنازع: إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت، فكفروا النافي، قيل لهم: وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن، فكفروا منازعكم. وقد اتفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب، مع دعوي كثير من الطائفتين القطع بمذهبه؛ وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيًا عند شخص يجب أن يكون قطعيًا عند غيره، وليس كل ما ادعت طائفة أنه قطعي عندها، يجب أن يكون قطعيًا في نفس الأمر، بل قد يقع الغلط في دعوي المدعي القطع في غير محل القطع، كما يغلط في سمعه وفهمه ونقله، وغير ذلك من أحواله، كما قد يغلط الحس الظاهر في مواضع، وحينئذ، فيقال: الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان، ووسط. /الطرف الأول: قول من يقول: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، كما قال مالك، وطائفة من الحنفية، وكما قاله بعض أصحاب أحمد. مدعيًا أنه مذهبه، أو ناقلًا لذلك رواية عنه. والطرف المقابل له: قول من يقول: إنها من كل سورة آية أو بعض آية، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، ومن وافقه. وقد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة، وإنما يستفتح بها في السور تبركًا بها. وأما كونها من الفاتحة، فلم يثبت عنه فيه دليل. والقول الوسط: أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في أول كل سورة، وكذلك تتلي آية منفردة في أول كل سورة، كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة وذكر أبو بكر الرازي أن هذا مقتضي مذهب أبي حنيفة عنده، / وهو قول سائر من حقق القول في هذه المسألة، وتوسط فيها جمع من مقتضي الأدلة، وكتابتها سطرًا مفصولًا عن السورة، ويؤيد ذلك قول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. رواه أبو داود، وهؤلاء لهم في الفاتحة قولان، هما روايتان عن أحمد. أحدهما: أنها من الفاتحة دون غيرها، تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة. والثاني: ـ وهو الأصح ـ لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك، وأن قراءتها في أول الفاتحة، كقراءتها في أول السور، والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول، لا تخالفه. وحينئذ، الخلاف ـ أيضًا ـ في قراءتها في الصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها واجبة وجوب الفاتحة، كمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وطائفة من أهل الحديث، بناء على أنها من الفاتحة. والثاني: قول من يقول: قراءتها مكروهة سرًا وجهرًا، كما هو المشهور من مذهب مالك. والقول الثالث: أن قراءتها جائزة، بل مستحبة، وهذا مذهب/ أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنـه. وأكثر أهـل الحديث، وطائفة من هؤلاء يسوي بين قراءتها وترك قراءتها، ويخير بين الأمـرين معتقـدين أن هـذا على إحـدي القـراءتين، وذلك على القـراءة الأخرى. ثم مع قراءتها، هل يسن الجهر أو لا يسن؟ على ثلاثة أقوال: قيل: يسن الجهر بها. كقول الشافعي، ومن وافقه. وقيل: لا يسن الجهر بها، كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي، وفقهاء الأمصار. وقيل: يخير بينهما. كما يروي عن إسحاق، وهو قول ابن حزم وغيره. ومع هذا، فالصواب أن ما لا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة. فيشرع للإمام ـ أحيانًا ـ لمثل تعليم المأمومين، ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانًا. ويسوغ ـ أيضًا ـ أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب، واجتماع الكلمة خوفًا من التنفير، عما يصلح كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وخشي تنفيرهم بذلك، / ورأي أن مصلحة الاجتماع والائتلاف، مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم. وقال ابن مسعود ـ لما أكمل الصلاة خلف عثمان، وأنكر عليه فقيل له، في ذلك، فقال: ـ الخلاف شر. ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة، وفي وصل الوتر، وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول، مراعاة ائتلاف المأمومين، أو لتعريفهم السنة، وأمثال ذلك. والله أعلم.
|